الطب النفسي

النواقل العصبية المتداخلة مع الالم النفسي

الألم النفسي ليس مجرد فكرة غير ملموسة تنشأ نتيجة التعرض للمشاكل العاطفية أو لضغوطات الحياة اليومية، بل أن الأمر يمتد إلى أكثر من ذلك ليشمل أي مشكلة أو خلل قد يصيب الجهاز العصبي وبالأخص النواقل العصبية التي تتواسط عملية النقل العصبي مابين الاعصاب في جميع أنحاء الجسم، وفي مقالنا هذا سنتكلم عن النواقل العصبية المتداخلة مع الالم النفسي والتي من الممكن تكون هي المسبب للاضطرابات المزاجية وليست مشكلة عاطفية أو مشكلة يومية كما يعتقد الكثير من الناس.

النواقل العصبية:

النواقل العصبية هي بالأصل مواد كيميائية موجودة داخل منطقة ارتباط خلية عصبية بخلية عصبية أخرى تليها، وإن عمل هذه النواقل العصبية بشكل أساسي هو تنظيم الإشارة العصبية القادمة من  الدماغ أو المتجهة باتجاه الدماغ.

وبشكل عام تتشكل هذه النواقل العصبية في منطقة تدعى الغشاء قبل المشبكي التابع للعصبون الأول ومن ثم تتحرر في منطقة تدعى الفالق المشبكي أو الفراغ المشبكي ما بين الخليتين العصبيتين ومن ثم تقوم بإحداث التأثيرات في منطقة ما بعد التشابك بين الخليتين العصبيتين وتلك التأثيرات من الممكن أن تكون تنشيطية أو أن تكون تثبيطية وذلك يعتمد على الناقل العصبي نفسه وعلى مكان تواجد المشبك العصبي فبعض النواقل العصبية تكون تثبيطية في مكان وتنشيطية في مكان آخر.

و يوجد عادة الملايين من جزيئات الناقل العصبي التي تفرز إلى منطقة التشابك مابين العصبونين عندما يصل التنبيه إلى العصبون الأول وبالتالي فإن أي خلل في كمية النواقل العصبية زيادةً أو نقصاناً سيؤدي بدوره إلى اضطرابات في عملية النقل العصبي واضطرابات في التواصل مابين الخلايا العصبية، وعندما يحدث هذا الخلل داخل الدماغ سيؤدي إلى مشاكل مزاجية كبيرة تظهر على شكل اضطرابات نفسية كالاكتئاب الذي يكون فيه الخلل في الناقل العصبي السيروتونين أحد أهم أسبابه، ومن هنا يمكننا أن نفهم دور النواقل العصبية المتداخلة مع الالم النفسي.

لمحة عن بعض النواقل العصبية المتداخلة مع الالم النفسي:

السيروتونين Serotonin:

هو ناقل عصبي أحادي الأمين، فهو مشتق من حمض التريبتوفان الأميني.

يوجد السيروتونين بشكل أساسي في الجهاز الهضمي والصفائح الدموية في الدم والجهاز العصبي المركزي، و يعتقد أن للسيروتونين دوراً هاماً في الشعور بالسعادة والطمأنينة.

يلعب السيروتونين في الجهاز العصبي دوراً هاماً في تنظيم المزاج والشعور بالرضا والشهية، و كذلك له دور في الإدراك و التعلم والذاكرة، وبالتالي تم تطوير العديد من عقاقير مضادات الاكتئاب التي تعمل بشكل أساسي على مستقبلات السيروتونين.

الدوبامين Dopamine:

يلعب الدوبامين داخل الدماغ أدواراً مهمّة في الوظائف الحركية التنفيذية وفي التحكم الحركي والتحفيز والتيقّظ والتعزيز والمكافأة، وكذلك في الوظائف الأخرى منخفضة المستوى مثل: إفراز الحليب والارتضاء الجنسي والغثيان.

يمكنك قراءة تأثير الدوبامين على مراكز العقاب والثواب في الدماغ من هنا.

كما يشكل الدوبامين عاملاً محورياً في نظام المكافأة في الدماغ، إذ أن توقّع المكافآت يزيد من مستويات الدوبامين في الدماغ، وبالعكس فإن عدم الشعور بالتقدير من الآخرين كنوع من انتظار المكافأة يؤدي إلى انخفاض مستويات الدوبامين الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى بعض الاضطرابات المزاجية ( عند القيام بعمل جيد ينتظر الشخص المديح من الطرف الآخر كنوع من المكافأة على الفعل الجيد الذي قدمه وبالتالي ترتفع مستويات الدوبامين لديه، ولكن عند عدم الحصول على تلك المكافأة سيؤدي ذلك إلى انخفاض مستوى الدوبامين لديه، ومع مرور الوقت سيشكل ذلك اضطرابات نفسية عديدة).

النواقل العصبية والارتباطات العصبية وعلاقتهما في الاضطرابات المزاجية والنفسية عند الإنسان:

إن جميع الآليات العصبية المختلفة تخضع إلى درجات عالية من التنظيم المعقد والمراقبة المستمرة، لإنه عند حدوث أي خلل بسيط سؤدي ذلك بدوره إلى أضرار ستشمل جميع أنحاء الجسم.

بعض المناطق في الدماغ مسؤولة عن تنظيم المزاج وتعديله، ويعتقد الباحثون في الآونة الأخيرة بأنّ دور الارتباطات العصبية ( المشابك العصبية ) والنمو العصبي والدارات العصبية لا يقل أهمية عن دور مستويات النواقل العصبية في عملية تنظيم المزاج.

سمحت تقنيات التصوير الحديثة مثل (PET) و (SPECT) و (fMRI) بإلقاء نظرةٍ أكثر قربًا على الدماغ، فعلى سبيل المثال؛ التصوير الوظيفي بالمرنان المغناطيسي ( fMRI ) يمكنه أن يرصد التغيرات الدقيقة التي تحدث في مناطق الدماغ عند استجابتها للمهام المختلفة، بينما تستطيع تقنيتا التصوير الأخرتان ( PET & SPECT ) رسم خريطة للدماغ عن طريق قياسهما لتوزيع وكثافة مستقبلات النواقل العصبية في مناطق محددة.

وقد أدّى استخدام هذه التقنيات إلى فهم المناطق في الدماغ التي تنظّم المزاج وكيف يمكن أن تتأثر وظائف دماغية أخرى في الاكتئاب كالذاكرة، والمناطق الدماغية التي تلعب دوراً كبيراً في الاكتئاب وبعض الاضطرابات المزاجية والنفسية الأخرى هي:

اللوزة الدماغية(Amygdala) :

وهي جزء من النظام الحوفي أو اللمبي في الدماغ (The Limbic System)، وهو عبارة عن مجموعة من البنى العميقة في الدماغ التي ترتبط بالمشاعر والعواطف مثل؛ الغضب والحزن والخوف والإثارة الجنسية.

تتفعّل اللوزة الدماغية عندما يسترجع الشخص ذكريات خاصة مشحونة بالعواطف، و بالتالي النشاط فيها يكون أكثر ارتفاعاً عندما يكون الشخص حزيناً أو يعاني من الاكتئاب، وهذا النشاط المرتفع يبقى حتى بعد التعافي من الاكتئاب.

المهاد (Thalamus):

يستقبل المهاد أغلب المعلومات الحسية القادمة من المحيط ويوجّهها نحو المنطقة المناسبة من القشر الدماغي، وتقترح البحوث الأخيرة بأنّ الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar Disorder) قد ينتج عن مشاكل في المهاد.

الحُصَين (Hippocampus):

وهو جزء من الجهاز الحوفي أيضاً، وله دور أساسي وهام في معالجة الذكريات طويلة الأمد واسترجاع الذكريات، والتفاعل بين الحُصَين واللوزة الدماغية يكون هاماً جداً، فهذا الجزء من الدماغ هو الذي يسجّل الخوف الذي تشعر به عندما تواجه كلباً عنيفاً على سبيل المثال، وذكرى هذه التجربة هي التي تجعلك تبقى خائفاً ومحترساً عندما تصادف كلباً أخراً في حياتك.

بعض الأبحاث المتعلقة بالنواقل والارتباطات العصبية وتأثيرها على الاضطرابات المزاجية المسببة للألم النفسي:

تُظهِر البحوث المتقدمة أنَّ الحُصَين يكون أصغر لدى بعض المرضى المصابين بالاكتئاب، ففي أحد الدراسات التي اعتمدت على التصوير الوظيفي بالمرنان المغناطيسي والتي نُشِرَت في دورية العلوم العصبية (The Journal of Neuroscience) حيث قام فيها الباحثون بدراسة 24 حالة امرأة ممن يملكن تاريخاً طبياً سابقاً في الاكتئاب، ووجدوا أنّه و بشكل تقريبي يكون الحُصَين أصغر بنحو 9-13% لدى مريضات الاكتئاب مقارنةً بالنساء التي لا تملك سجلاً سابقاً بالاكتئاب.

وكلما زادت نوبات الاكتئاب التي مرت بها المريضة سابقاً كان الحُصَين أصغر ( ينتج النقص في حجم الحصين بسبب النقصان في الروابط والاتصالات العصبية داخل الحصين مما يؤدي بذلك إلى ضموره)، ومن هنا يمكننا أن نفهم بأن الروابط والاتصالات العصبية لها دور هام وأساسي في الاضطرابات العصبية والمزاجية وأنه عند وجود اضطرابات غالباً ما ستترافق تلك الاضطرابات بضمور في المناطق المتأثرة من الاضطرابات السابقة.

ولا بد لنا أن نذكر بأن التوتر الذي يلعب دوراً في الاكتئاب قد يكون عاملاً رئيسياً هنا، إذ يعتقد الخبراء أنَّ التوتر يمكنه أن يثبط إنتاج خلايا عصبية جديدة في الحصين وأن يدمر الاتصالات العصبية الموجودة مسبقاً.

ويحاول الباحثون في الآونة الأخيرة اكتشاف العلاقة المحتملة بين فقدان الخلايا والارتباطات العصبية في الحُصَين وبين انخفاض المزاج واضطراباته، وفي هذا الشأن يوجد حقيقة مثيرة وتدعو للاهتمام حول الأدوية المضادة للاكتئاب قد تدعم النظرية السابقة حول علاقة الارتباطات العصبية والاضطرابات النفسية التي تسبب في النهاية الألم النفسي، فهذه الأدوية ترفع بشكل مباشر تراكيز النواقل العصبية الكيميائية في الدماغ، ولكن مع ذلك لا يبدأ المرضى بالتحسُّن فوراً وإنما يمتد الأمر إلى عدة أسابيع أو أكثر، وهذا دائماً ما كان الموضع الذي يثير الحيرة والتساؤل فإن كان الاكتئاب والاضطرابات النفسية والمزاجية الاخرى تتعلق بشكل رئيسي في انخفاض مستويات بعض النواقل العصبية، لمَ لا يتحسَّن المرضى حالما ترتفع مستويات تلك النواقل؟!

ومن أحد النظريات التي حاولت الأجابة عن هذا التساؤل هو أنّ تحسُّن المزاج يحصل عندما تبدأ الخلايا العصبية في تشكيل الروابط والاتصالات العصبية من جديد وهذه العملية قد تستغرق أسابيع، الأمر الذي يفسر عدم ظهور التحسن في الأعراض بشكل مباشر بعد تناول الأدوية المضادة للاكتئاب.

وفي الحقيقة أظهرت الدراسات على حيوانات التجربة أنّ مضادات الاكتئاب تقوم بتحفيز نمو وتفرُّع الخلايا العصبية في الحُصَين وتشكيل اتصالات جديدة، وعلى ذلك فالنظرية قد تعني بأنّ القيمة الفعلية لهذه الأدوية قد تكون بتحفيزها لإنتاج خلايا عصبية جديدة بعملية تدعى التخليق أو الاستحداث العصبي (Neurogenesis)، وتقويتها للروابط بين الخلايا العصبية، أكثر من كونها تعمل على زيادة تراكيز النواقل العصبية.

يمكنك قراءة المزيد من المقالات الطبية وآخر ماتوصل إليه العلم والطب من هنا.

يمكنك التواصل معنا ومشاركة آرائك من هنا.

المصادر:

زر الذهاب إلى الأعلى