الطب النفسي

مراكز العقاب والثواب في الدماغ

لطالما ما تساءل البشر عن رغبتهم واندفاعهم نحو بعض الأشياء دون الأخرى، فمثلاً يندفع معظم الناس نحو الطعام اللذيذ، الكحول، الجنس، الشوكولا، وسائل التواصل الاجتماعي، المواد الإباحية، والكثير من الأمور الاخرى دون أي سبب محدد، فالمبرر دائماً مايكون ” لأنني أحب فعل ذلك ” ولكن هل تساءلت يوماً لماذا تحب ذلك ؟

لكي نتسطيع تفسير تلك الرغبة الجامحة نحو أشياء معينة ومحددة إلى حد ما، يجب علينا أن نفهم مايعرف بنظام المكافأة لدى البشر ومراكز العقاب والثواب في الدماغ.

مقدمة عن مفهوم العقاب والثواب:

في البداية سنتكلم عن الثواب والعقاب كمفهوم مجرد بحد ذاته لكي يصبح من السهل علينا فهم الآليات العصبية المعقدة التي يستخدمها الدماغ البشري لدفع الإنسان لأداء أشياء معينة ومحددة وبناء رغبة تجاهها.

الثواب:

يعرف الثواب على أنه ما يعود على الإنسان بعد أداءه لعمل ما ويؤدي بالنهاية إلى تعزيز رغبته تجاه هذا العمل.

أي أنه عندما يقوم الإنسان بفعل شيء ما ( غالبا ما يكون جيداً، لأن الثواب يوجد في الخير والشر ولكن بالخير بشكل أكبر ) ويتلقى المديح والمكافأة من الآخرين مقابل قيامه لهذا الفعل سيؤدي بالنهاية إلى قيامه بهذا الفعل مرة أخرى، وهذا مايعرف بتعزيز الفعل.

العقاب:

يعرف العقاب على أنه مايعود على الإنسان بعد أداءه لعمل ما ويؤدي بالنهاية إلى كبح رغبته تجاه هذا العمل.

أي أنه عندما يقوم الإنسان بفعل شيء ما ( غالبا ما يكون سيئاً، لأن العقاب يوجد في الخير والشر ولكن بالشر بشكل أكبر ) ويتلقى الذم والعقاب من الآخرين مقابل قيامه لهذا الفعل سيؤدي بالنهاية إلى عدم قيامه بهذا الفعل مرة أخرى، وهذا مايعرف بكبح الفعل.

المفاهيم السابقة تتضمن العقاب والثواب عندما يقوم الآخرين بتطبيقه على الطرف الآخر، وقد انتشرت تلك المفاهيم منذ القدم، فمفهوم تربية الأطفال من قبل الآباء أو استخدام الإنسان للعصا للتعامل مع المواشي أو طرق التعامل مع الحيوانات الأليفة هي جميعها أمثلة واضحة على تطبيق مفهوم الثواب والعقاب من قبل طرف على طرف آخر من أجل تعزيز أفعال محببة أو كبح أفعال مكروهة.

ولكن ماذا لو كان الإنسان نفسه وتحديداً دماغ الإنسان يطبق مفهوم الثواب والعقاب على ذاته ؟

أي أن الدماغ يكافئ الإنسان عند قيامه بفعل معين ويعاقبه عن قيامه بفعل آخر ؟

من هنا سننطلق في فكرة مراكز العقاب والثواب في الدماغ لدى الأنسان.

مراكز العقاب والثواب في الدماغ:

توجد عدة مناطق متفرقة من الدماغ تكون مسؤولة عن العديد من قراراتنا بشكل عام، ولكن المركز الأساسي المسؤول عن آلية العقاب والثواب في الدماغ هو الجسم المخطط The Striatum.

الجسم المخطط:

الجسم المخطط

يعرف باسم النواة المخططية أو الجسم المخطط الحديث وهو جزء تحت قشري من الدماغ الأمامي، وهو يتألف من النواة المذنبة Caudate واللحاء Putamen.

وهو يعتبر منطقة من الدماغ مسؤولة عن العديد من المهام وخاصة الفعاليات الحركية والتنسيق والتخطيط والتحفيز والتعزيز والأهم من ذلك أنه يعد الجزء الأساسي من الدماغ المسؤول عن نظام المكافأة.

بمعنى آخر هو المنطقة من الدماغ التي تخبرك ” اذهب من أجل ذلك ” والتي تخبرك أيضاً ” أياك أن تفعل ذلك “.

الجسم المخطط اشعة
صورة MRI تظهر النواة المذنبة في الأعلى باللون الأحمر وتظهر اللحاء إلى الأسفل واليمين مشكلان بجموعهما الجسم المخطط.

يتعرض الجسم المخطط للعديد من التغيرات البنيوية بشكل ملحوظ نتيجة السلوك الأدماني أو تعاطي المخدرات والكحول، أي وبمعنى آخر، يتأثر الجسم المخطط نتيجة أي سلوك إدماني يبديه الإنسان تجاه الأشياء.

إن الجسم المخطط يمارس تأثيراته على الدماغ ضمن نطاق العقاب والثواب من خلال كميات الدوبامين الموجودة ضمنه.

دور الدوبامين في آلية الثواب والعقاب في الدماغ:

يعتبر الدوبامين ناقل كيميائي عصبي يوجد في الدماغ بشكل رئيسي، يؤدي إفراز الدوبامين إلى زيادة النشاط في الدماغ، فالدوبامين هو المادة الكيميائية التي تخبرنا ” اذهب من أجل ذلك “.

أي وبشكل مبسط، يعتبر الدوبامين هو المسؤول عن الرغبة في تكرار سلوك معين، أي أنه يعتبر عامل رئيسي في تعلمنا للعديد من السلوكيات.

كما أن له دور كبير في الأفعال والسلوكيات التي يحتاجها الإنسان للبقاء على قيد الحياة كالرغبة اتجاه الطعام والجنس وتجنب الألم والخ.

كما أنه يعتبر الإشارة الأساسية المسؤولة عن بدء الحركة والتي تخبرنا أنه يجب علينا أن نتحرك.

حيث نلاحظ أنه عند الأشخاص المصابون بداء باركنسون ( مرض يكون سببه بشكل أساسي نقص في كمية الدوبامين في الدماغ ) ضعف في عملية البدء بالحركة، لذلك يخضع الدوبامين إلى آليات تنظيمية معقدة من أجل الحفاظ عليه ضمن المستويات الطبيعية.

إن النظرية الأساسية حول دور الدوبامين بالتحفيز والكبح في الدماغ تعتمد على أن الدوبامين يفرز نتيجة الرغبة وليس الإعجاب.

إذ أن شعور النشوة والمتعة بنفسه يتولد نتيجة تأثيرات المواد الأفيونية الطبيعية والدوبامين على الدماغ، فيتولد لدى الإنسان مع مرور الوقت حاجة دائمة لفعل أشياء معينة تؤدي إلى إفراز الدوبامين على الرغم من عدم إعجابنا بالفعل نفسه الذي قمنا به ولكننا نقوم به نتيجة الحاجة وليس الإعجاب.

فالدماغ يقدم لنا المديح والثناء ( الثواب ) على شكل زيادة في مستويات الدوبامين وبنفس الطريقة يقدم الذم والعقاب على شكل انخفاض في مستويات الدوبامين، وبتلك الطريقة يقوم الدماغ بآلية الثواب والعقاب على افعالنا نفسها.

الدوبامين والنشوة:

يتحكم الدماغ بكمية الدوبامين التي سيطلقها قبل قيامنا بسلوك معين على حسب كمية السعادة والنشوة التي سيجلبها الفعل إذا قمنا به.

فإنه عند شعورنا بالسعادة عند قيامنا بفعل معين لأول مرة فإن الذاكرة المتكونة تخبرنا أننا سنشعر بالسعادة نفسها عند قيامنا بذلك الفعل مرة أخرى، وهذا ماسيدفعنا إلى القيام به مرة أخرى.

ولكن عندما يكون ذلك الفعل منتهكاً لتوقعاتنا، أي أنه ولّد سعادة أكبر أو سعادة أقل من الذاكرة المسجلة، فإن ذلك سيؤدي إلى تغيرات في مستويات الدوبامين في المرة القادمة التي سنقوم بهذا الفعل ( إما أن تفرز كميات أكبر لأن الفعل ولد سعادة أكبر في آخر مرة قمنا به أو أن تفرز كميات أقل لأن الفعل ولد سعادة أقل عندما قمنا به في آخرة مرة ).

كما أن الدماغ عند تعرضه لخيبة أمل أي أن الفعل لم يولّد السعادة المتوقعة فإنه سيطارد الذكريات الأولى وتجربة النشوة الأولى للمحاولة على إبقاء ذلك السلوك قائم قدر الإمكان.

ومن هنا تأتي فكرة الإدمان، إذا أنه عند قيامنا بفعل معين قدّم لنا سعادة معينة بالتالي الدماغ سيقوم بإفراز دوبامين بشكل أكبر من أجل القيام به مرة أخرى وعندما قمنا بتكراره مرة أخرى حصلنا على سعادة أكبر وهكذا الأمر إلى أن نصل إلى مرحلة لا يمكننا فيها أبداً الإقلاع عن ذلك الفعل ودماغنا سيظل يخبرنا بأنه الثواب من خلال إفرازه للدوبامين وأيضاً سيخبرنا بأن أي فعل آخر غير ذلك الفعل هو فعل سيئ من خلال آلية العقاب المتمثلة بنقص إفراز الدوبامين.

فكلما زاد الدوبامين في مركز المكافأة زاد الشعور المحفّز تجاه ذلك السلوك والعكس صحيح.

وسيعيش الإنسان في حالة من التبعية السلوكية تجاه سلوك معين ودماغنا سيتعامل مع الأمر على أنه مسألة حياة أو موت.

الختام:

مما سبق نجد كيف أن دماغنا قادر على التحكم بالكثير من أفعالنا من خلال دفعنا للقيام بأفعال معينة وكبحنا عن القيام عن أفعال أخرى من خلال نظام الثواب والعقاب المعتمد على تراكيز الدوبامين، وذلك التحكم بأفعالنا يكون ناتج عن الرغبة وعن المحاولة للبقاء بغض النظر عن إعجابنا بهذا الفعل أو لا ويكون ناتج أيضاً عن الذاكرة المسجلة عن نتائج القيام بالفعل لأول مرة.

………………………………………………………

المصادر: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC8992377/#:~:text=The%20dopaminergic%20pathway%20mostly%20involved,structures%20of%20the%20limbic%20system.

https://rewardfoundation.org/brain-basics/reward-system/

يمكنك قراءة المزيد من المقالات الطبية وآخر ماتوصل إليه العلم والطب من هنا.

يمكنك التواصل معنا ومشاركة آرائك من هنا.

زر الذهاب إلى الأعلى