دور النوستالجيا في تسكين الالم وتحسين الصحة النفسية
المقدمة:
قليلٌ بيننا من لم يسمع والده أو جده يوماً يقول: “الله يرحم أيام زمان كان زمن خير”، وكلما سألتهم عن أيام الشباب وجدت الشغف استهل حديثهم، وبدأت عينيهم باللمعان لحديثٍ قد يكون غير ذي أهميةٍ في مضمونه، إلا أنه في الواقع يحمل العديد من المشاعر الإيجابية التي تلعب دوراً جوهرياً في تحسين الصحة النفسية للشخص، فما دور النوستالجيا في تسكين الالم؟ وما الأساس السايكوفيزيولوجي لذلك الدور؟.
تعاريف أساسية في موضوع المقال:
النوستالجيا Nostalgia:
هي الحنين أو الرغبة في العودة للماضي، وعادة ما تتعلق بمكانٍ أو فترةٍ زمنيةٍ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بذكريات الشخص.
يرتبط التعلق بالماضي عادةً بعددٍ من مجالاته، ومثال ذلك:
1- شخصياتٌ كانت قد رافقت الشخص بمشواره.
2- أحداثٌ سارةٌ قابلها بمشوار حياته.
3- فرصٌ أُتيحت له سواء قام باستغلالها أم لا.
دور النوستالجيا في تحسين الصحة النفسية:
عادةً ما تختبر النوستالجيا عند فقدان شيءٍ كان موجوداً في ما سبق، وظروف الحياة حتّمت خسارته.
على الرغم من ذلك فإن الدراسات أكدت أن مشاعر النوستالجيين تجاه الشيء المفقود تكون عموما دافئةً وإيجابية.
ولما كانت النوستالجيا محفزاً للمشاعر الإيجابية، كانت مقترنةً مع عدد من الفوائد، نذكر منها:
1- محاربة الوحدة Fights loneliness:
ذكرت دراسة (Zhou et al., 2008) دوراً أساسياً للنوستالجيا في محاربة الوحدة، وكانت أبرز النقاط الواردة في الدراسة:
عادةً ما تشمل الذكريات الماضية تفاعلاً مع أشخاص آخرين.
كوننا كائناتٍ اجتماعية، فإننا نستخدم النوستالجيا لتذكر علاقاتنا مع الأشخاص الآخرين، مما يزيح عنا الوحدة ويريح صدورنا.
2- تحسين المرونة في الأداء والتفكير Improves resilience:
ذكر عددٌ من الدراسات أثراً إيجابياً للنوستالجيا في تحسين القدرة على مواجهة المواقف الصعبة، وإيجاد الحلول لمشكلاتٍ مستعصية.
يعود ذلك إلى دورها في تعزيز الثقة بالذات خصوصا من خلال تذكر مواقفٍ مستعصية استطاع النوستالجي أن يتخطاها.
مع العلم أنه يشترط في هذه الفكرة أن تكون النوستالجيا موجهةً تجاه ذكريات متعلقة بموقفٍ مشابه.
3- تخفيف الألم النفسي المكتوم بزيادة المرونة النفسية Fights emotional pain:
قد يخيل للبعض أن المرونة النفسية هي أمر جينيٌّ بيئيٌّ بحت، إلا أنها وفي كثير من الأحيان يمكن بنائها وتطويرها بالتمرين.
أحد الطرق المتبعة في هذا الخضم كانت تمرين الأشخاص على استحضار الذكريات السعيدة.
ومن ذلك، فإن دور النوستالجيا في تسكين الالم النفسي وتخفيف آثاره يعد ثورةً في علم النفس الإيجابي.
4- تحسين النمو النفسي Improves psychological growth:
بالنظر الى ذكريات الماضي وطرق التعامل مع المواقف المختلفة، قد يرى الناس أنفسهم في اتجاه نمو نفسي.
5- إعطاء معنى وجودي للحياة Existential meaning:
غالبا ما يكون ذلك من خلال تذكر القضايا التي ناضل الشخص من أجلها والأسباب التي دفعته لذلك.
دور النوستالجيا في تسكين الالم Nostalgia-induced analgesia:
أكدت الدراسة التي أثارت ضجةً عالمية في الاونة الاخيرة، والمنشورة بتاريخ 6 ابريل 2022 (Dr. Kong Yazhou, 2022) دور النوستالجيا في تسكين الالم الجسدي.
في هذه التجربة، تم تعريض المشاركين لمنبهات حرارية متجاوزة لعتبة الألم بشداتٍ مختلفة لفترة زمنية محددة.
بعد ذلك، تمت إعادة التجربة في أثناء مشاهدتهم صور من طفولتهم.
وبعد انتهاء التجربة، وسؤال الناس عن إحساسات الألم التي شعروا بها، أشار أغلب المشاركين في التجربة إلى أنهم شعروا بألمٍ أخف في أثناء مشاهدتهم لصور الطفولة، خصوصا عند الشدات الاخف، الأمر الذي أكد دور النوستالجيا في تسكين الالم الجسدي.
دور المهاد في تسكين الالم المعتمد على النوستالجيا:
إن فهم الارتباط النفسي الفيزيولوجي بين مفهومٍ معنوي كالنوستالجيا ومفهومٍ حسي كالألم الجسدي يتطلب تصويرا بالرنين المغناطيسي للدماغ بتقنية MRI.
تأتي أهمية ذلك من أجل التعرف على البنى العصبية المشاركة في هذه العملية السايكوفيزيولوجية المعقدة.
وعند ما قام الباحثون بالتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وجدوا أن العضو المرتبط بكلا المفهومين، هو محطة الوصل الدماغية، المهاد.
في البداية سنتطرق لتعريف المهاد وتوضيح وظيفته الاساسية:
المهاد Thalamus:
بنية من مادة رمادية تقع في الدماغ البيني Diencephalon في عمق المادة البيضاء للدماغ، تشكل محطة من النوى التي يستقبل كلٌ منها نوعاً من الإشارات وينظم انتقالها إلى الدماغ.
تمر كل الأحاسيس (عدا الحس الشمي) في المهاد قبل وصولها إلى القشرة المخية.
له ارتباطات مع كل من:
الجهاز الحوفي The Limbic System: وهذا ما يفسر ارتباطه مع المشاعر كالنوستالجيا.
النواة المسننة في المخيخ Dentate nucleus: له دور في تنسيق الحركات الارادية من خلال الدارة المسننة – المهادية – القشرية – الجسرية – المسننة.
الباحات الحسية في القشرة المخية: وبالتالي ينقل أغلب الأحاسيس إلى القشرة المخية، ومنها إحساس الألم.
المادة الرمادية حول المسال المخي Periaquaductal grey matter (PAG): والتي لها دور أساسي في جهاز التسكين الدماغي، يتم ذلك الارتباط عبر النواة الأمامية للمهاد.
الاليات المهادية القشرية المتدخلة في تسكين الألم الجسدي:
عادة ما تتداخل النواة الأمامية Anterior للمهاد مع شعور النوستالجيا، نظرا لارتباطها الوثيق مع الجهاز الحوفي المسؤول عن المشاعر والانفعالات.
بالمقابل، فإن السيالات الألمية القادمة من مختلف أنحاء الجسم تطال النواة البطنية الخلفية الوحشية من المهاد
VPLN (Ventro-posterio-lateral nucleus).
ترتبط VPLN بدورها بالقشرة المخية الحسية الجسدية التي تقوم بجزء من الإدراك الحسي للألم الجسدي.
عند قيام المشاركين بالنظر إلى صور طفولتهم، أدى ذلك إلى تفعيل النواة الأمامية للمهاد.
كل ما زاد شعور النوستالجيا المتولد لدى المشاركين ازدادت الناقلية العصبية بين النواة الأمامية و PAG.
يتدخل PAG في جهاز التسكين الدماغي من خلال ارتباطها مع القشرة الحسية الجسدية التي تقوم بتثبيط السيالات القادمة إليها من VPLN.
وبهذا المعنى، فإن النواة الأمامية للدماغ استطاعت تنظيم عمل VPLN بطريقةٍ غير مباشرة، وساهمت في تسكين الألم.
الختام:
إن مدلولات هذه التجربة، وكل الاثار الإيجابية المدعمة بالمصادر التي ذكرت في هذا المقال توضح وبشدة أن سلوك الحنين للماضي هو سلوكٌ صحي، يحسن المزاج ويدعم الثقة بالنفس، ويعزز قدرة الشخص على مواجهة تحديات الحياة المختلفة، لذلك عزيزي القارئ، عندما يخبرك أحدهم بأن عليك نسيان الماضي لتجاوز مشاكلك، يمكنك ببساطة أن ترسل له رابط هذا المقال.
المصادر:
https://www.jneurosci.org/content/42/14/2963
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/19000213/
يمكنك قراءة المزيد من المقالات الطبية وآخر ماتوصل إليه العلم والطب من هنا.
يمكنك التواصل معنا ومشاركة آرائك من هنا.