كتمان الالم النفسي: اثاره على الذات والاخرين وعلاقته بعلم النفس الإيجابي

إن ضغوطات الحياة التي يعانيها الشباب العربي من محاولات لتأمين المستقبل والعيشة المستقرة، بالإضافة إلى صعوبات الزواج وغلاء الأسعار فرضت عليه قيوداً والتزامات حرمته من كثير من متع الحياة التي يفترض تخفف عنه وتسهل عليه معاناته. ومن هنا، نشأ ضغط نفسي لا يلبث أن يتراكم لدى كل شابٍ وطأ عمر المسؤولية وبات ملزماً بأداء واجبات أضحت صعبة المنال. وإنّ ما يفرضه مجتمعنا من قيودٍ على الشباب تمنعهم من التعبير عن أوجاعم دفعهم إلى كتمان الالم النفسي ذاك، فما اثار كتمان الالم النفسي على:

أولاً: ذات الشخص بروحه وجسده.

ثانياً: من حوله من أقارب الناس.

قبل التطرق إلى اثار كتمان الالم النفسي، سبدأ بمفاهيم أساسية بسيطة لتمهيد أرضية يبنى عليها مقالنا.

الألم النفسي Emotional pain:

هو كل ألم ينتج من مواجهة غير جسدية أو أي موقفٍ يفسره الدماغ من تجارب سابقة على أنه حدثٌ غير سار.

نتيجةً لذلك، يتنبه عدة مراكز عصبية يتعامل كل منها بنواقله العصبية لينتج عن كلٍ منها ارتكاسٌ خاص.

أخيراً، يشكل مجموع تلك الارتكاسات الجواب العام الذي يقدمه الجسم full body response في مواجهة ذلك الموقف.

:ومن أهم تلك المراكز . 

1- الجهاز الحوفي أو اللمبي The Limbic System:

وهذا ما يزيد من تثبت الموقف المسبب للألم في الذاكرة، إذ إن الأثر له الدور الأكبر في تشكيل الذاكرة وتخزينها على شكل ذاكرة طويلة الأمد في قشر المخ.

كما أنه الجهاز الحوفي هو المسؤول عن ردود الفعل العاطفية التي يبديها الإنسان من إنكارٍ وغضب، ثم حزنٍ وركونة وميل نحو العزلة، قبل الوصول إلى مرحلة التقبل.

2- الوطاء:

يعد مسؤولاً عن التأثيرات الودية المرافقة للألم النفسي.

3- مركز الثواب والعقاب الدماغي في الجسم المخطط The Striatum:

وهو المسؤول عن إفراز الدوبامين عند القيام بنشاطات مثل تناول الطعام اللذيذ، الجنس، التواصل الاجتماعي الخ.

إن إفراز الدوبامين المقترن مع الأفيونات الداخلية له الدور الرئيسي في شعور النشوة euphoria التي يبديها الإنسان عند القيام بنشاطٍ مفرح، وهو عكس ما يحصل عند غياب تلك النشاطات.

علم النفس الإيجابي Positive psychology:

هو أحد فروع علم النفس الحديث المتطورة من التفكير الإيجابي على يد مارتن سليجمان الذي يهتم بخصائص السلوك البشري السوي، خصوصاً بما يحقق سعادة الناس ويسعى لإظهار الأفضل من شخصيتهم.

يقوم علم النفس الإيجابي بتحسين قدرات شخصية الفرد من خلال تعزيزه القيم الإيجابية. نذكر منها:

الفرق بين علم النفس الكلاسيكي وعلم النفس الإيجابي:

1- يهتم علم النفس الكلاسيكي باكتشاف الأخطاء والمشاكل النفسية لدى الأفراد.

بالمقابل، يقوم علم النفس الإيجابي بمحاولة توضيح مميزات شخصية كل فرد.

وبالتالي، يكون السؤال الرئيسي في علم النفس الكلاسيكي: “ما هي المشكلة التي تعاني منها؟” أو “?what is wrong with you”.

بينما يكون السؤال الرئيسي في علم النفس الإيجابي: “ماهي مزايا شخصيتك؟” أو “?what is right with you”.

2- يهتم علم النفس الكلاسيكي ياكتشاف مكامن الضعف لدى الفرد والعمل على تصحيحها.

أما علم النفس الإيجابي، فيهتم باكتشاف مكامن القوة لى الفرد والعمل على تعزيزها.

الشخصية التي يهدف علم النفس الإيجابي إلى بنائها:

يهدف علم النفس الإيجابي في مضمونه إلى بناء شخصية إيجابية متفائلة قادرة على مواجهة تحديات الحياة، وهي عموماً تتميز بما يلي:

1- شخصية مرنة قادرة على التكيف مع ظروف المشاكل المحيطة وإيجاد البدائل لحل المشكلات.

2- شخصية واثقة تسعى دائماً إلى التميز في الأعمال التي تسند إليها.

3- شخصية قادرة على ضبط المشاعر والانفعالات.

4- شخصية مسؤولة تتحمل أخطاءها وتسعى إلى تحسينها.

5- شخصية قادرة على إيجاد حلول متعددة للمشاكل التي تواجهها.

العلاقة بين علم النفس الإيجابي وكتمان الالم النفسي:

قد يبدو علم النفس الإيجابي للوهلة الأولى الأداة البشرية المطلقة التي تمكن الفرد من تخطي مشاكل الحياة.

يعزو البعض ذلك إلى دعوته إلى التركيز على إيجابيات الحياة، فهو علم قائم على تعزيز الثقة بالنفس ودفع النفس البشرية إلى محاولات التطوير والتحسين.

إلا أنه وعلى الرغم من ذلك فقد ربطت العديد من الدراسات بينه وبين كتمان الالم النفسي بطريقة أو أخرى.

أهم تلك الدراسات هي الدراسة التي نشرتها الصحيفة الدولية لبحث وممارسة العلاج النفسي في 2019.

ذكرت تلك الدراسة عدداً من النقاط التي التقت عندها النقطتين السابقتين، ومن أهمها:

1- إن المبالغة في محاولة تجميل المشكلات الخارجية والنظر إلى الإيجابيات في الحياة، قد تجعل التكيف مع الألم مجرد مظهر خارجي.

بكلمات أخرى، قد يعاني الشخص من الألم دون اقتناعه الذاتي بأنه يعاني، وهو أحد مظاهر كتمان الألم النفسي.

2- عندما يواجه الشخص مشكلةً أكبر من قدرته على حلها، تبدأ ثقته بنفسه بالتزعزع، وبالتالي يزداد ألمه.

3- في كثيرٍ من الأحيان، تصبح النظرة الإيجابية آليةً دفاعية تخفي ورائها ضعفاً يتطلب مساعدةً حقيقية من خبير نفسي.

آثار كتمان الالم النفسي على الذات:

تقسم آثار كتمان الالم النفسي على الذات إلى آثار روحية، وأخرى فيزيولوجية.

آثار كتمان الالم النفسي الروحية:

1- فقدان الثقة بالذات:

يعزى ذلك إلى:

خوف الإنسان من الفشل في أي تجربةٍ يبدأ بها، وبالتالي تنشيط مركز العقاب.

إن الخوف بذاته يمنع الإنسان من المحاولة الجدية والتركيز في أي نشاطٍ يريد التقدم لفعله، وهذا بدوره يزيد احتمال الفشل.

2- الميل نحو العزلة:

عادةً ما يترافق الخروج ومقابلة الآخرين مع الكثير من التجارب والمواقف الجديدة التي تحتاج من الإنسان التركيز وحسن التعامل.

ومن ذلك،فإن انخفاض الثقة المترافق مع زيادة الألم النفسي تمنع الإنسان من الاندفاع تجاه التجارب الجديدة، وتكبح جماح فضوله.

3- الكآبة المتزايدة:

إن ازدياد الألم النفسي غير المترافق مع العلاج قد يؤدي إلى انخفاض المزاج العام للشخص، ومع غياب رغبته بالقيام بالنشاطات التي تفعل لديه نظام الثواب Reward system نظراً لانخفاض ثقته بنفسه، واضطرابات الشهية يصبح الأمر أشبه بدارةٍ مغلقة، تحفز فيها الكآبة قلة النشاطات بينما تحفز قلة النشاطات بدورها الكآبة بسبب تفعيل مركز العقاب.

4- النظرة التشاؤمية للأشياء:

ويكون ذلك مترافقاً مع فقدان الثقة بالذات والخوف من تجربة أي جديد.

آثار كتمان الألم النفسي الفيزيولوجية (العضوية):

1- اضطرابات الشهية Appetite disorders.

قد يترافق ذلك مع زيادة مفرطة في الشهية تؤدي للبدانة (نهم)، أو إعراضٍ مفرطٍ عن الطعام يؤدي للنحول (قهم).

2- اضطرابات الجهاز الهضمي Digestive disorders:

أول تجربةٍ لإثبات العلاقة بين الحالة النفسية والجسدية تمت منذ حوالي قرن على يد زوجين طبيبين.

كان الزوجان مختصين بالأمراض العصبية والنفسية قبل أن ينفصل الاختصاصان عن بعضهما.

في تلك التجربة، كان يعمل لدى الزوجين حارس للإسطبل لديه ناسورٌ معدي جلدي.

قرر الطبيبين افتعال ضغطٍ نفسي للحارس وملاحظة الأثر على المخاطية المعدية، فقاما بإخفاء بعض الخيول واتهامه بسرقتها.

النتائج التي لاحظها الطبيبان:

1- بدأ الأمر على شكل زيادة في إفراز حمض كلور الماء بدرجةٍ شديدة.

2- تلى ذلك احتقانٌ واحمرار في الغشاء المخاطي المعدي.

3- انتهى الأمر بالحارس مصاباً بقرحة ونزف هضمي علوي.

القولون العصبي:

هو أحد أهم المضاعفات المتوقعة لكتمان الالم النفسي الناتجة عن اضطرابات الحركات الحوية والتقلصات غير المنتظمة للأمعاء بسبب التفعيل المستمر للجهاز الودي.

3- انخفاض النشاط البدني ومعدل الاستقلاب العام Low metabolic rate:

يعد هذا الأثر مشتركاً بين الآثار الفيزيولوجية والروحية لكتمان الالم النفسي.

إذ إن انخفاض الرغبة المتزايد للقيام بنشاطات الحياة اليومية، يقلل عموماً من اندفاع الإنسان تجاه الحركة والتمرين، وهذا ما يقود بدوره لانخفاضٍ في معدل الاستقلاب العام داخل الجسم.

4- اضطرابات النوم Sleeping disorders:

قد يتظاهر ذلك بواحدٍ أو أكثر من الأشكال الآتية:

آثار كتمان الالم النفسي على الاخرين:

يمكن تلخيصها بشكلٍ أساسي في ثلاث نقاطٍ أساسية:

1- نوبات الغضب:

في كثيرٍ من الحالات قد يتظاهر الألم النفسي بغضبٍ عارمٍ على كلّ من يحاول تقديم يد العون.

يعود ذلك إلى شعور المريض النفسي بالضغط المستمر حياله فيرى الطريقة الأمثل للتخلص من ذلك الضغط هي الغضب.

قد يكون ذلك مؤذياً وجارحاً لمن هم حوله إن لم يكونوا قادرين على التفهم والتحمل.

2- مشاعر الأهل:

قد لايستطيع الأهل المحبون لأولادهم المعانين من الاكتئاب النفسي أن يقدموا المساعدة لهم نظراً لقلة ثقافتهم بالمواضيع النفسية.

هذا يؤدي بدوره إلى ضغطٍ على الأهل قد ينجم عنه ألمٌ نفسي لديهم أيضاً.

3- مشاكل مع أصحاب المصالح:

قد أصبح الدور الذي يشغله الألم النفسي في تثبيط همة صاحبه جلياً.

لذا، فإن توقف الشخص عن القيام بواجباته الأساسية قد يسبب مشاكلاً في عمله المعتمد عليه مما قد يضر بصاحب ذلك العمل.

الختام:

فإن الدور الذي يشغله علم النفس الإيجابي في تحسين إنتاجية الشخص ودوره المجتمعي ونظرته للحياة لا يمكن إنكاره، لكن وجب على الإنسان أن يكون حكيماً في يخصّ نقاط ضعفه التي تتطلب الإصلاح، واللجوء للمساعدة الطبية عندما يكون بحاجةٍ إليها، وعموماً على من هو حوله أن يكون صبوراً عليه، لأن المريض النفسي يحتاج عنايةً خاصة واهتماماً خاصاً، خصوصاً من أقرب الناس إليه.

يمكنك قراءة المزيد من المقالات الطبية وآخر ماتوصل إليه العلم والطب من هنا.

يمكنك التواصل معنا ومشاركة آرائك من هنا.

Exit mobile version